منذ نحو قرن من الزمان في نظارة المعارف العمومية (وزارة التعليم الآن) وتحديداً في عام 1913 حدث ھذا …
تقدم سكرتير المعارف العمومية بأدب وخطى سريعة إلى مكتب أحمد حشمت باشا 1 – وزير المعارف العمومية – يخطره بقدوم حافظ وخليل. رجلان في بداية العقد الرابع من العمر، وعليھما علامات السعادة والبشر بإنجازيھما المحمول في لفافة أنيقة تليق بصاحب المعالي.
أما حافظ، فھو محمد حافظ إبراھيم فھمي المھندس – الشھير بحافظ إبراھيم – المولود في ديروط بصعيد مصر، في عام 1871 ، نشأ يتيم اً بعد موت أبيه وأمه من بعده، والتحق بالمدرسة الحربية وسافر مع حملة السودان فألف فيھا خلية سرية وطنية ضد الإنجليز، اكتشفھا المحتل فأحيل إلى
الاستيداع بعد محاكمة سريعة، ولكنه خدم في البوليس بعد ذلك بعون من راعيه الشيخ الإمام محمد عبده، وانتھى به الأمر محرر اً في جريدة الأھرام واشتھر بأشعاره الوطنية وكان شعره نجم المناسبات الكبرى ذا جرس قوي متدفق وإبداع متميز وحرارة تستنھض قوى الأمة المصرية فلقب بشاعر النيل.
أما خليل، فھو خليل عبده يوسف مطران، المولود في نفس عام مولد شاعر النيل، في بعلبك بلبنان، وتعلم فيھا في المدرسة البطريركية، ورحل إلى مصر ليتولى تحرير جريدة الأھرام ثم أنشأ صحف اً، كان منھا الجوائب المصرية التي كانت مناصرة لمصطفى كامل باشا في حركته الوطنية ضد المحتل، وترجم عدة كتب وألف الشعر فلقب بشاعر القطرين، وكان يشبه بالأخطل وابن الرومي في أسلوبه الشعري …
ولكن سبب لقاء الشاعرين الأديبين بوزير المعارف المصرية لم يكن له علاقة بالشعر، فاللفافة كانت تحوى كتاب اً في علم الاقتصاد قاما بتعريبه عن اللغة الفرنسية بتكليف من الوزير الذي وصفاه في تقديم الكتاب المعرب بالعالم العامل.
التقيھما أحمد حشمت باشا بحفاوة وتحية سائلاً ھل انتھيتما مما بدأتماه منذ عامين؟ لقد اخترت لكما فقد رأيت ،Paul Leroy Beaulieu ھذا الكتاب في علم الاقتصاد لمؤلف بارع ھو بول لروا بوليو أن علم الاقتصاد من العلوم البازغة حديثة النشأة، وسوف يكون له وللمشتغلين به شأن في الأمم
الناھضة.
ويستطرد أحمد حشمت باشا:
وصاحب ھذا الكتاب ذائع الصيت في بلاده، والطبعة التي طلبت منكم ترجمتھا ھي الثالثة عشر بما لا يدل على أھمية الكتاب وكاتبه فحسب، ولكن على أھمية ھذا العلم الذي يدرس اليوم في الجامعات والمعاھد الكبرى في البلاد الأوروبية …
وھذه البلاد الجديدة المسماة أمريكا لا تنشئ اليوم جامعة أو مدرسة عليا إلا وكان في تخصصاتھا قسم يوجه إلى تعليم الاقتصاد وما ارتبط به من علوم. وقد رأيت ونحن نبني ھذه النھضة في عصر أفندينا الخديوي عباس، أطال لله عمره، أن نعلم النشء من طلبة العلم أسس ھذا الحقل الجديد من العلوم ..
خاصة بعدما تصفحت ھذا الكتاب ووجدت فيه تعريفاً لعلم الاقتصاد بأنه “يضم بين دفتيه جميع السنن العامة التي يجرى عليھا إنتاج الأرزاق وتوزيعھا وتداولھا واستھلاكھا” 2 وأنه لا يمكننا في يومنا ھذا، ونحن في سنة 1913 ، أن نكون بمنأى عن علم يدور حول أمور ھي “بحقيقتھا من أعقد الأمور التي تعرض في ھذه الحياة” و قد أظھر ھذا الكتاب فيما أذكر ارتباطاً قوياً بين علم الاقتصاد وعلوم أخرى، فھو ذو ارتباط مما سن للفلسفة من حيث أنھا علم “تستخرج به التصورات الشاملة من الوقائع الفردية”.
ويسترسل أحمد حشمت باشا إعجاباً بالكتاب وموضوعه … “ونجد علم الاقتصاد أخذ اً بيد التاريخ من حيث أن التاريخ يعيد على الناس عظات الماضي ليحكموا سيرھم ويجعل للأمم التالية رشد اً من عبر الأمم الخالية”، كما نجد أن ھذا العلم ملائم اً للإحصاء … من حيث أن “الإحصاء وسيلة تحصر بھا جميع الوقائع الاجتماعية وتفصل تفصيلا يعين أھل العلم على استخلاص النتائج والقواعد”. وكذلك علم الحقوق “فللاقتصاد” به روابط أوثق، فلكليھما أساس اً واحداً ھو المسئولية الذاتية المتصلة بمبدأي الحرية والملكية … ولعلكما لاحظتما وأنتما تعربان ھذا الكتاب أنه “لا ينعى على الاقتصاد أنه مناف لمكارم الأخلاق بدعوى اقتصاره على البحث في إنتاج الأرزاق وحركة تداولھا، ولا صحة لما قيل من أنه مذھب للأثرة” وحب الذات … فمكارم الأخلاق، وفق ھذا الكتاب، وفي تقديري فضائل اقتصادية وأمثلة ذلك “حب العمل والسلطان على النفس، والجلد والمثابرة
والإقساط والتبصر”.