تزامن انعقاد المؤتمر الدولي لاعتماد وثيقة «الاتفاق العالمي للهجرة الآمنة والنظامية»، الذي استضافته مراكش هذا الأسبوع، مع إصدار تحديث لبيانات الهجرة وتحويلات العاملين بالخارج. وتشير الأرقام إلى أنه على الرغم من الجدل السياسي المحتدم حول الهجرة، فإن أرقام المهاجرين في ازدياد.
استمر تدفق المهاجرين، لأسباب اقتصادية، من أهمها الفقر، مدفوعاً بالفجوة الكبيرة في مستويات الدخول بين الدول، إذ تبلغ متوسطات الدخول في الدول الأعلى دخلاً 70 مثلاً مقارنة بالدول الأقل دخلاً. كما تسهم الاختلالات السكانية بين الدول المصدرة والمستقبلة للعمالة في زيادة هذا التدفق. وتحمل تغيرات المناخ دوافع جديدة للهجرة؛ حيث أشار تقرير حديث إلى أن تغيرات المناخ سترغم نحو 140 مليون شخص على ترك ديارهم في خلال العقود القادمة، إذا لم تتخذ تدابير مناسبة لاحتوائها. كما تضيف التغيرات التكنولوجية المتسارعة ضغوطاً متباينة على أسواق العمل، ودوافع جديدة للهجرة.
يتضمن اتفاق الهجرة الآمنة عدة مجالات للتعاون، تتعلق بجمع البيانات، وضمان الإثبات القانوني للمهاجرين، وحماية الهجرة الشرعية وتأمينها، ومكافحة التهريب والاتجار بالبشر، وحماية الحدود، ومنح المهاجرين الحق في الحصول على خدمات أساسية كالرعاية الصحية. ودعت الوثيقة إلى تفعيل مشاركات بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص لتحقيق أهدافها.
وقد أكدت الوثيقة على أن هناك مسؤوليات مشتركة، لا يقلل الاشتراك في تحملها من الحقوق السيادية لكل دولة في صياغة سياساتها، وتنفيذ ما تراه مناسباً لأولوياتها الوطنية.
وعلى الرغم من أن هذه الوثيقة لا تلزم الدول قانونياً بإجراءات محددة، كما لا تترتب عليها حقوق جديدة للمهاجرين، وأنها قد صيغت بعد مناقشات استمرت زهاء عامين بصورة لا تفرض تدخلاً يذكر في شؤون البلدان الداخلية، فقد انسحبت 14 دولة منها حتى تاريخ انعقاد مؤتمر الهجرة الذي شاركت فيه أكثر من 160 دولة. ولا يُعد انسحاب من انسحب من الدول مفاجئاً في ضوء ما تشهده من تحولات سياسية.
وعندما يحتدم الجدل، وتزداد حساسية النقاش، فيجب أن تُستدعى الأدلة لاستجلاء الحقائق، ونلخصها في ست نقاط:
أولاً، وصل عدد المهاجرين حالياً إلى 266 مليون مهاجر حول العالم، مقارنة بعددهم في عام 2016 الذي بلغ 250 مليوناً. وتبلغ نسبة المهاجرين إلى إجمالي سكان العالم نحو 3 في المائة فقط؛ لكن إسهامهم في الناتج الإجمالي يتجاوز 9 في المائة، كدلالة على ارتفاع إنتاجيتهم.
ثانياً، كانت الهجرة أكثر عدداً بين دول الجنوب، بعضها إلى بعض، وليست من دول الجنوب إلى دول الشمال كما يصور الانطباع السائد. فوفقاً لتقرير قدمته المغرب، عن حالة الهجرة في أفريقيا وأجندتها المستقبلية، فإن ثلثي مهاجريها ينتقلون بين بلدانها. كما أن 80 في المائة من هذه الهجرة تتم بشكل منظم وقانوني.
ثالثاً، هناك زيادة صافية في أعداد المهاجرين، وذلك بعد الأخذ في الاعتبار حالات العودة المتزايدة ممن رُفضت طلبات التحاقهم بسوق العمل، أو أُنهيت تعاقداتهم لاعتبارات اقتصادية، أو لتطبيق سياسات إحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية. وتراجعت فرص العمل للمهاجرين من جنوب آسيا إلى دول الخليج العربية بشكل ملحوظ في عام 2017؛ حيث تشير أرقام الطلبات الجديدة للتسجيل للعمل في الخارج من مواطني جنوب آسيا، إلى تراجع في زيادتها السنوية، بنسب تتراوح بين 12 في المائة في حدها الأدنى و41 في المائة في حدها الأقصى، خلال العامين الماضيين.
هذا فضلاً عن العائدين من أوروبا من اللاجئين وطالبي اللجوء السياسي والمهاجرين بوسائل غير قانونية. فقد ازدادت أعداد العائدين المحتملين من أوروبا بأربعة أمثال، في الفترة من عام 2011 حتى عام 2017؛ حيث وصل عددهم إلى خمسة ملايين ونصف المليون. أما العائدون من الولايات المتحدة للأسباب ذاتها، وفي الفترة ذاتها، فقد ارتفع عددهم من مليون ونصف المليون إلى أكثر من ضعف هذا العدد.
رابعاً، يعاني العمال غير المهرة، وخاصة القادمين من الدول الأقل دخلاً، من ارتفاع تكلفة التحاقهم بالعمل خارج بلدانهم، ذلك رغم وجود اتفاقات ومذكرات تفاهم بين الدول لتخفيض هذه التكاليف وتنظيم تحصيلها، ومنع استغلال العمال من قبل وكالات التشغيل المعتمدة، ومكافحة الأنشطة غير الرسمية المتعلقة بها.
خامساً، ينفق المهاجرون أغلب أجورهم في داخل الدول المضيفة لهم، وما يتبقى منها يشكل تحويلاتهم إلى بلدانهم، التي تجاوزت في الأهمية لأول مرة إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة الموجهة للدول منخفضة ومتوسطة الدخل. إذ تشير إحصاءات عام 2018 إلى ارتفاع تدفقات تحويلات العاملين بالخارج بمقدار 11 في المائة مقارنة بالعام السابق، لتصل إلى 528 مليار دولار. وترجع هذه الزيادة إلى تحسن سوق العمل في الولايات المتحدة، واستعادة التدفقات القادمة من روسيا ودول الخليج لمسارها.
وعالمياً، فإن أكبر الدول استقبالاً لتحويلات العاملين هي الهند، التي تدفق إليها 80 مليار دولار، وعربياً فأكبرها مصر التي وصل رقم التحويلات إليها لنحو 26 مليار دولار في عام 2018. تتبعها لبنان بمقدار 8 مليارات دولار من التحويلات. أما أكثر الدول العربية اعتماداً في دخلها على التحويلات فهي اليمن، إذ تمثل 24 في المائة من إجمالي دخلها المحلي.
سادساً، لا تزال تكلفة تحويل الأموال من العمال المهاجرين إلى بلدانهم باهظة. ورغم أن المؤشر الدولي هو ألا تتجاوز تكلفة تحويل الأموال 3 في المائة، فإن المتوسط الدولي الحالي هو 7 في المائة، وهو رقم لا تبرره خدمات مصرفية أو تأمين ضد مخاطر التحويل؛ بل يرجع لمزيج من عدم كفاءة منظومة الخدمات المالية، وقلة المنافسة، والمبالغة في فرض رسوم على هذه التحويلات.
إن لهجرة العمالة تأثيرات اقتصادية إيجابية وسلبية، وإذا كانت العبرة بالأثر الصافي فقد تبينت إيجابيته في الدول المصدرة أو المستقبلة للعمالة التي تنتقل في إطار منظم وآمن، من البلد الأم للبلد المضيف. فقد أظهر تقرير حديث عن الهجرة والتنمية مؤشرات لزيادة في مستوى معيشة العاملين المهاجرين وأسرهم، وتحسناً كبيراً في فرص تعلم أبنائهم ورعايتهم الصحية. كما خفضت هجرة العاملين من معدلات البطالة، وأوجدت تحويلاتهم طلباً على سلع وخدمات في اقتصادات بلدانهم، كما أسهمت هذه التحويلات في تحسن أوضاع موازين المدفوعات وأسعار صرف العملات. وأشار التقرير أيضاً لآثار إيجابية على حركة التجارة والاستثمار واكتساب معارف جديدة. ولم تغب تكاليف اقتصادية للهجرة عن الرصد، تمثل أغلبها فيما يعرف بنزيف الأدمغة والمهارات؛ خاصة في قطاعات الطب والتعليم.
أما بالنسبة للدول المستقبلة للعمالة، فقد أوضح تقرير أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن الأثر الصافي للمهاجرين على الموازنات العامة كان إيجابياً. وفي الدول المتقدمة التي ترتفع نسبة متقدمي العمر فيها، كان لقدوم مهاجرين صغار السن أثر إيجابي على التركيبة السكانية وهيكل سوق العمل ونظم المعاشات، وإعانة كبار السن.
وعلى الرغم من هذه الحقائق، فإن هناك انطباعاً في عدد من الدول المستقبلة للمهاجرين ينزع إلى سلبية الحكم على إسهامهم، فتثور المخاوف حول ضياع لفرص العمل، أو الضغوط على الخدمات العامة ونظم الضمان الاجتماعي. وباستبعاد للتوجهات العنصرية البغيضة المتنامية في بعض البلدان، فإن هذه الانطباعات قد تكون مدفوعة باعتبارات مهمة تتعلق بالحفاظ على الهوية والثقافة الوطنية، وهو ما يمكن التعامل معه من خلال سبل إدماج المهاجرين في ظل سياسة حصيفة. وعبر عن هذه السياسة في مقال مشترك عُمد ثلاث مدن، هي أثينا وبريستول وكمبالا. وتعتمد في توجهها على تجنب اعتبار المهاجرين مجرد كم إحصائي مهدد للأمن والاستقرار، ووجوب تبني سياسة للاحتواء والإدماج تبنى على قيم التسامح وقبول الاختلاف. وباعتبار أن المدن هي المستقبل الأكبر للمهاجرين، وكذلك اللاجئين، فقد دشن العُمد الثلاثة ومعهم خمسة آخرون «مجلس عمد المدن للهجرة» في إطار اجتماعات مراكش. ويهدف هذا المجلس إلى مساندة جهود السلطات المحلية في الاستفادة المثلى من المهاجرين، والتعامل مع التحديات التي قد تطرأ أولاً بأول في مجتمعاتهم المضيفة، والقيام بالتوعية والتواصل المستمرين لضمان الاستقرار والتعايش.
سواء كانت مثل هذه الاتفاقيات العالمية ملزمة قانونياً أو غير ملزمة، فإن تأثيرها منوط بمدى جدية تطبيق ما تم الاتفاق عليه فيها. ولعل ما بادرت به بعض السلطات المحلية مؤشر قد تتبعه جهود تنفيذية أخرى، مدعومة بالموارد والمشاركات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني، بما يحقق نفع عموم الناس.
* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي البنك الدولي