ظھرت في الآونة الأخيرة مقالات وتقارير كثيرة تشير ببوادر انفراج للأزمة الاقتصادية العالمية، ومنھا ما تطوع بالحديث عن ظواھر للتعافي للاقتصاد العالمي، بل وعودته إلى ما كان عليه قبل الأزمة، ومنھا ما جاء متحفظاً وحذراً، فيشير إلى أن الطريق ما زال طويلاً حتى يصل العالم إلى
أوضاع ما قبل الأزمة.
وأرى أن فيما يساق به مقدار من الصواب ومقادير من الخطأ. أما الصواب فھو أن ھذه الأزمة الراھنة إلى زوال مثلھا في ذلك مثل أزمات أخرى مرت بالاقتصاد العالمي ثم انتھت. فنھاية الأزمات ھو القاسم المشترك بينھا جميع اً. فھل استمرت أزمة إلى ما لا نھاية؟
فالأزمات المالية والاقتصادية التي حاقت بالعالم قد شھدت جميعاً نھايةُ لھا.. إما بإجراءات تعاملت معھا أو سياسات احتوتھا أو مشاكل وأزمات أخرى استجدت فأنست الناس أزماتھم التي أمست ماضية ھينة مقارنة بما حل بعدھا، كحال الحرب العالمية الثانية في أعقاب أزمة الكساد الكبير، ھذا فضلاً عما في البشر من قدرة على التعود والتأقلم حتى مع الأزمات.
ولكن الأخطاء فيما يساق تكمن في تصور أن ھناك عودة لأحوال ما قبل الأزمة أو تخيل أن ما يتخذ من تدابير سيعود بالناس إلى ما كانوا عليه قبل الأزمة بحلوه ومره.
فالأزمات كالمعارك الحربية الكبرى تسفر عن خاسر مھزوم ورابح منتصر، ولا عدل في نتائج الأزمات إذ يدفع ثمنھا وتكلفة الخروج منھا البريء مع المذنب المتسبب فيھا. وأطراف ھذه المعركة ھي أمم الأرض جميعاً الداخلة في سباق محموم.. بعضھا يسعى إلى الصدارة، وبعضھا لا يسعى إلا للبقاء في السباق، فالخروج منه لا يعنى إلا الخروج من مضمار الحياة الاقتصادية.
والسباق الذي نشھده اليوم، أشبه بسباق عنيف للسيارات يضع قواعده أصحاب السيارات المتقدمة الذين حققوا تقدماً في النمو الاقتصادي والتنمية البشرية والإنتاجية وجودة الحياة وأنجزوا استقراراً وتطوراً في حياة مواطنيھا.
لقد مر ھذا السباق بالمشاركين فيه على ما مر إليه حتى عام 2008 الذي اندلعت فيه ھذه الأزمة الكبرى.. وكان في الصدارة سيارة الولايات المتحدة الأمريكية باقتصاد قوامه 14 تريليون دولار يدفع بھا إلى المقدمة وتأتي بعدھا سيارة اليابان باقتصاد قيمته 5 تريليون دولار ثم الصين باقتصاد مقداره 4 تريليون دولار ثم ألمانيا ثم فرنسا ثم المملكة المتحدة، وتأتي الھند في المركز الثاني عشر وكوريا في المركز الخامس عشر وتركيا في المركز السابع عشر والمملكة العربية السعودية في المركز الثالث والعشرين وجنوب أفريقيا في المركز الثاني والثلاثين وماليزيا في المركز الثاني والأربعين والإمارات العربية المتحدة في المركز التاسع والأربعين ومصر في المركز الخمسين، والكويت في المركز الخامس والخمسين وفيتنام في المركز الثامن والخمسين والمغرب في المركز التاسع والخمسين وتلتھا سيارات أخرى لباقي دول العالم.
ثم تأتي الأزمة المالية بتأثيراتھا فتصيب السيارات المتسابقة بإصابات متباينة. فيتراجع معدل سرعة بعضھا لتصل إلى الصفر، بل تنحدر بعضھا متراجعة وتنخفض السرعة في سيارات أخرى، ولكنھا سباق الأمم واقتصاديات الواقع الجديد 3 المصور – يوليو 2009 تستمر في التقدم مقللة من فارق المسافات بينھا وبين السيارات المتقدمة. إن المتابع لھذا السباق ومجرياته قد يرى أن حديث العودة إلى سابق ما كان قبل اندلاع الأزمة حديث متھافت تغيب عنه حقائق الواقع، ولا يستفيد من أحوال تاريخ الأمم وما يُستقى منه من عبر. فمنذ أكثر من ستمائة عام ذكر العلامة ابن خلدون في “المقدمة” أسباب ارتقاء الأمم وتمكنھا، وما يدفع بھا إلى التراجع والانحسار، وكتب في كيف أن المُ لك إذا ذھب من البعض فلا بد له من انتقال إلى آخرين تسمو آمالھم إلى ھذا المُلك مدفوعين بقدراتھم على التنافس والمنازعة حتى يصير الأمر إليھم ويتمتعون بمميزات الصدارة ومنھا اقتداء المغلوبين بھم وانتشار قيمھم… فالمغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب.
إذن فإن الأزمة إلى زوال كسالفاتھا ولكنھا تاركة بعدھا ما لن يزول بانقضائھا وسيشھد ھذا القرن تحولات كبرى في موازين القوى تميل بالعالم نحو الشرق بعد عھود من الميل إلى الغرب.
ففي السنوات القادمة سينشغل الناس في الدول التي أصابتھا الأزمة بمحاولة الاستفادة من دروسھا الظاھرة، وبمراجعة دور الدولة وفاعلية رقابتھا على الأسواق. وسيتزايد إنفاق الدول في الاقتصادات المتقدمة بما يترتب على ذلك من عجز في الموازنة وارتفاع في الديون الداخلية والخارجية، كما
ستزيد معدلات التضخم في ھذه الدول بسبب تمويل العجز بالتوسع في إصدار النقود ورخاوة السياسة النقدي.
كما ستلجأ ھذه الدول إلى أساليب حمائية معوقة لحركة التجارة الدولية في ظل الفشل المتكرر لدورة الدوحة، ومن المعلوم أن ثمانية عشر من الدول المشاركة في قمة العشرين اتبعت إجراءات حمائية متنوعة قبل وبعد اجتماع لندن في أبريل الماضي مدفوعة بإجراءات تحفيز الاقتصاد الداخلي،
ھذا فضلاً عن الإجراءات اليائسة لتعويق حركة الاستثمار عبر الحدود وعرقلة استحواذ مؤسسات وصناديق آسيوية على أصول وشركات أوروبية وأمريكية.
وفي ھذه الأثناء وعلى النقيض نجد تغيراً كبيراً يحدث باتساع وانتشار الاقتصادات الآسيوية التي مازالت تحظى بمعدلات نمو مرتفعة نسبياً تيسر من تجسير الفجوة بينھا وبين الدول المتقدمة حالي اً.
فنرى نمواً غير مسبوق لتجارة الصين وجاراتھا خلال السنوات الماضية، وبعدما كانت استثماراتھا الخارجية تقل عن 5 مليار دولار في عام 2004 نجدھا تجاوزت 50 مليار دولار في عام 2008 وتقترب من 60 مليار دولار في عام 2009 ، وتتضمن في الشھور الستة الماضية شراء لشركات إنتاج سيارات أمريكية وأوروبية كبرى ومصانع لإنتاج الأجھزة الكھربائية فضلاً عن مجالات البترول والغاز والتعدين والمحاجر لتضيف إلى الطاقة الإنتاجية وحصتھا من الاقتصاد العالمي.
ولكن الشاھد الأكبر على عمليات التحول التي يمر بھا النظام الاقتصادي العالمي ھو ھذا المقترح الذي أعتبره أھم مقدمة لما سيشھده عالم الاقتصاد والنقد والمال في السنوات القادمة، والذي بدأ منذ مارس من ھذا العام باقتراح للنقاش من البنك المركزي الصيني بشأن مراجعة سياسة الاعتماد على الدولار الأمريكي كعملة لتسوية المعاملات الدولية وعملة للاحتياطي، خاصة بعدما شھده الدولار من تقلب، وتضمن المقترح بديلاً بتطوير حقوق السحب الخاصة الصادرة من صندوق النقد الدولي منذ عام 1969 كعملة دولية جديدة، مع مراجعة أوزان العملات الداخلة فيھا.. وسيكون لھذا المقترح ما بعده خاصة، وأنه أصبح بنداً دائماً في اجتماعات المؤسسات المالية الدولية واجتماعات القمم الاقتصادية.
ورغم ما ينطوي عليه ھذا المقترح من أمور فنية معقدة، لا يمكن تجاھل أنه أحد المظاھر الكبرى للواقع الجديد وتغيرات ما بعد الأزمة التي ستنعكس في تغير خريطة الاقتصاد العالمي واتجاھات تبدل موازين القوى الاقتصادية فيه، بين صعود وھبوط في سباق الأمم.