كلما اُكتشفت عملية احتيال مالية واسعة المدى استدعى المحللون والمحققون وسلطات الرقابة المالية ما فعله تشارلز بونزي في العشرينات من القرن الماضي بالولايات المتحدة من جرائم نصب وخداع لإجراء المقارنات ومحاولة منع تكرارها.
ففي عام 1920، أدار بونزي نظاماً للإثراء السريع يعد الناس بمنحهم 50 في المائة عائداً على رؤوس أموالهم في خلال 90 يوماً، في الوقت الذي كانت تمنح البنوك فيه عائداً على الودائع لا يتجاوز 5 في المائة سنوياً. أقنع بونزي عشرات الآلاف من الأميركيين بأنه يستطيع تحقيق هذه العوائد، وتوزيعها عليهم وفقاً لمساهماتهم، بفضل اكتشافه طريقة للربح المرتفع من فروق التداول على أسعار صرف عملات الدول المصدرة لطوابع بريدية للمراسلات التي سيشتريها بكميات كبيرة.
لم يتحقق من صحة ادعاءاته أحد، ولم يتساءل الناس عما إذا كانت أسعار الصرف للعملات ستتغير في الاتجاه المعاكس، وعن كمية وقيمة الطوابع البريدية الواجب شراؤها لتحقيق هذه المكاسب. كان بونزي من البداية يعلم أنه يدير عملية نصب يوريها وراء خديعة مالية، ويخفيها ببعض الدعايات يلقيها هنا وهناك، وبإظهار أنه يقوم بأعمال تستوجب السرية، وروّج لقدرته دون غيره على القيام بها لمهارته واتصالاته.
أما شركاء بونزي فهم بالأساس ضحاياه، فهم يتورطون في عمليات النصب هذه مدفوعين بحب الكسب السريع للمال الوفير دون التحقق من طبيعة النشاط، أو قانونية المصدر، أو سلامة المعاملات، أو مدى مناسبة العوائد للمخاطر. أما كيف يكون الضحايا شركاء في مثل هذه الألاعيب المالية، فمرده إلى أن هذه الخديعة المالية يلزمها طرفان: الأول محتال يتمتع بمهارة، والآخر شخص جشع أو تغلب عليه الغفلة أو جامع للصفتين. فالمحتال يدير هذه المؤامرة المالية مستغلاً رغبة من يقبل عليه بأمواله ليوظفها له بعائد مرتفع يتجاوز كل ما يمكن أن تمنحه البنوك والبورصات وأعمال التجارة وأنشطة الاقتصاد المتعارف عليها.
ويستغل المحتالون من أمثال بونزي أموال المشاركين الجدد في دفع مستحقات المشاركين القدامى، وتستمر الخديعة حتى تأتي ساعة المحاسبة وكشف الأوراق. فهناك نهاية حتمية لهذه الخديعة المالية عندما يزيد معدل سحب المستحقات الموعودة على معدل تدفق الأموال الجديدة من الشركاء أو الضحايا الجدد.
فكرة الاحتيال المالي بأن يدفع المشاركون الجدد مستحقات المشاركين القدامى تحت أي مسمى لمشروع وهمي، لا يملك براءة اختراعها في النصب تشارلز بونزي، فقد سبقه إليها آخرون. ويستعرض الاقتصادي الأسترالي ميرفين لويس وأستاذة القانون تامار فرانكل في كتابين لهما عن الخدع المالية باتباع طريقة بونزي أمثلة كثيرة. ففي عام 1823، ادعى الاسكتلندي جريجور ماكريجور عند عودته إلى لندن بعد رحلة في أميركا الوسطى، أنه بصدد إنشاء مستعمرة، فيما عرف بعدها بهندوراس البريطانية (بليز حالياً)، وحصل على تصريح من البورصة بإصدار سند قيمته 200 ألف إسترليني بعائد 6 في المائة بضمان المستعمرة المزعومة التي أطلق عليها اسم «بوياس». لم يكتف هذا المحتال بإقناع الناس بشراء سندات صادرة عن حكومة وهمية لمستعمرة لا وجود لها إلا في خياله، بل استحث 250 بريطانياً للهجرة إليها، مات ثلثاهم من الملاريا وأمراض أخرى وهم في الطريق إلى أرض مجهولة. هرب ماكريجور إلى باريس وحاول أن يصدر سنداً جديداً يدفع بإيراده مستحقات السند القديم، لكنه فشل وهرب بعدها إلى أميركا الوسطى حيث مات.
كما ظهر في بروكلين بنيويورك في عام 1899 محتال آخر عرف باسم «وليم 520 في المائة ميللر». ويأتي اسم الشهرة العجيب من أنه وعد مستثمريه بعائد مقداره 10 في المائة أسبوعياً على مدار أسابيع السنة الاثنين والخمسين، وجمع مليون دولار، تعادل 20 مليون دولار حالياً، وفشل في تحقيق وعوده وسُجن لعشر سنوات.
أما سبب شهرة بونزي فترجع إلى أن خديعته المالية قد طالت أعداداً أكبر؛ إذ وصل عدد ضحاياه 40 ألفاً في خلال عام واحد، كان منهم ثلاثة أرباع قوة شرطة بوسطن من الضباط والجنود، وجمع منهم ما يعادل 162 مليون دولار بسعر اليوم. لكن نشاطه الاحتيالي تعرّض لشح في السيولة، وبخاصة بعدما أوضحت الصحافة في تحقيقاتها أن ما مقداره 160 مليوناً من الكوبونات والطوابع البريدية يجب أن يكون في التداول حتى يستطيع بونزي أن يصدق في وعوده، ثم جاءت النهاية عندما أعلن مكتب البريد الأميركي أن مثل هذا المقدار من الطوابع البريدية لم يصدر أبداً في داخل أميركا أو خارجها، فلما طالب المستحقون بأموالهم كُشفت الخديعة، وعندما تم القبض على بونزي لم يجدوا في مقراته إلا ما قيمته 61 دولاراً من الطوابع.
وربما يعلم القارئ أن نظم الخداع المالية على طريقة بونزي وشركاه لم تقتصر على المدن الأميركية، بل امتدت إلى روسيا وألبانيا من خلال ادعاء المتاجرة في قسائم طرح الشركات العامة للمستثمرين في التسعينات. وكذلك عرفتها دول أفريقية وعربية فيما عرف بظاهرة توظيف الأموال التي شهدت مصر أسوأ حالاتها انتشاراً في الثمانينات من القرن الماضي، دوّنها في كتاب الصحافي عبد القادر شهيب، وحلل لأسبابها وتداعياتها بإسهاب الاقتصادي المصري المرموق محمود عبد الفضيل في كتاب آخر. وبعد سقوط شركات توظيف الأموال، التي بلغ عددها 105 شركات، في عام 1988 بخمس سنوات رصدت في بحث أن ما جمعته هذه الشركات من أموال كان يعادل 10 في المائة من إجمالي ودائع الجهاز المصرفي الرسمي، وجُمع أغلبها في السنوات الثلاث السابقة على السقوط، وبعد عشرات السنوات من سقوطها لم يتحصل المودعون، وورثتهم، إلا جانباً محدوداً مما أودعوه.
أما أكبر من استغل طريقة بونزي في الخداع، حتى الآن، فهو برنارد مادوف الذي قررت المحاكم الأميركية في عام 2009 بسجنه لمدة 150 عاماً، لارتكابه 11 جريمة تتعلق بالتحايل المالي والتضليل لسنوات عدة تسببت في ضياع عشرات المليارات من الدولارات مستحقة لنحو 13000 مستثمر. وهناك اختلاف في تقدير حجم الخسارة والأموال المستحقة، حيث لم يثبت أن مادوف اشترى أوراقاً مالية فعلاً لعملائه على مدار 13 عاماً. وفي حين يذهب القانونيون إلى أن للمستثمرين رؤوس أموالهم فقط والتي تبلغ 17 مليار دولاراً، إلا أن المستثمرين طالبوا بالإضافة لذلك بالعوائد الموعودة بما يصل بالمستحقات لمبلغ 65 مليار دولار.
واللافت للنظر، أنه رغم تعدد وتشابه عمليات الاحتيال المالي ما زالت عمليات النصب آخذة في الانتشار حول العالم، وبقليل من الابتكار في الحيل، تتكرر الخدع ويزيد الضحايا. فالقواسم المشتركة لهذه الألاعيب والخدع المالية باتت معروفة وتبدأ بمحتال ماهر، يقع في شراكه مجموعة من راغبي الثراء السريع، ويتخذ المحتال مشروعاً وهمياً ستاراً له، وقد يحظى المحتال في بعض الأحوال بصلات بالسلطات، أو بمكانة في المجتمع تكسبه ثقة من الناس فتوقع في شباكه مجموعات أكبر من الضحايا. وربما يستخدم المحتال شبكة للدعاية والإعلان، دخلت فيها الآن وسائط التواصل الاجتماعي.
وعادة ما تتدخل السلطات الرقابية متأخرة لما يحيط بهذه الخدع ومشروعاتها من الكتمان. وقد تستمر هذه الخدع لأسابيع محدودة إذا ظهرت عوارض فشلها أو اكتشفت مبكراً، وقد تستمر لسنوات حتى تعترضها أزمة مالية تكشف عن المستور أو يفضح أسرارها اختلاف بين الشركاء.
إن جهداً أكبر لسلطات الرقابة المالية أصبح مطلوباً بالتنسيق بينها وبين الجهات المعنية، بما في ذلك جهات الأمن، لاستشراف الخطر والتحذير منه ومنعه قبل وقوعه، واستخدام تكنولوجيا المعلومات للاستطلاع المبكر عن أي تغيرات سلوكية أو مخالفات محاسبية تظهر عدم التوافق بين المعاملات المالية ومصادرها ووجهاتها، وتبين أي نمط غير تقليدي لا يخضع للرقابة المالية ومعاييرها المستقرة، وأن تجعل التوعية المالية لعموم الناس من أولويات عملها.
*الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي البنك الدولي