انطلقت تكنولوجيا المعلومات وابتكاراتها بخدمات البنوك والمؤسسات المالية إلى رحاب جديدة وأتت بحلول لمشكلات كانت مستعصية لدمج أعداد غفيرة في إطار الأنشطة المالية ويسرت المدفوعات باستخدام الهواتف المحمولة وشبكات الإنترنت وخفضت من تكاليف المعاملات والتحويلات المالية. وتطالع اليوم إعلانات الوظائف الجديدة في البنوك وشركات التأمين ومؤسسات الاستثمار المالي فتجد من متطلبات العمل إجادة «التكويد» الإلكتروني والإلمام باستخدامات الذكاء الاصطناعي في المجال المالي والتطبيقات المتقدمة لتكنولوجيا المعلومات.
ومنذ أيام أعلنت إحدى شركات تكنولوجيا المعلومات وهي «أبل» عن بطاقة ائتمان جديدة بمواصفات غير معتادة في البطاقات التقليدية. فهي مصممة للاستخدام بالأساس مع الهاتف المحمول وتستخدم تطبيقات محفظته المالية. والبطاقة الجديدة الإلكترونية التي صممت للتعامل بها في أسواق الإنترنت لها أيضاً قرين في شكل بطاقة بلاستيكية، لكنها بلا أرقام كتلك المتعارف عليها في واجهة البطاقات التقليدية، وليس لها تاريخ محدد تنتهي بعده صلاحيتها، ولا توقيع على ظاهر البطاقة فهي مؤمنة بنظم تشفير متطورة. وأعلنت الشركة أنه سيتم البدء في العمل بها في الصيف القادم في الولايات المتحدة، وسيكون إصدارها بلا رسوم سنوية وبلا تكاليف إضافية عند استخدامها دولياً، ولا يُغرم حاملوها إذا تجاوزوا الحد المسموح أو تأخروا في السداد، إذ يمكنهم تقسيط الدفع على شهور، وإذا احتاج العميل مساعدة يمكنه التواصل مع خدمة العملاء من خلال خدمة الرسائل النصية. وفضلاً عن ذلك سيرد إلى العميل 2 في المائة من قيمة مشترياته في ذات اليوم نقداً في حساب بطاقته، وإذا كانت المشتريات من منتجات «أبل» فستصل النسبة إلى 3 في المائة.
ليس هذا مجرد إعلان عابر عن منتج جديد اشتركت في تطويره شركة لتكنولوجيا المعلومات مع شركة بطاقات ائتمان هي «ماستركارد» وبنك الاستثمار «غولدمان ساكس»، ولكنه إيذان بتغير جديد في نظم الدفع وأسواق الائتمان وتجارة السلع والخدمات. ولننظر في محاور تأثير هذا الابتكار المالي الذي يمكن إدراجه تحت ما أطلقت عليه مسمى المربكات، وتناولت صوراً مختلفة له في مقالات سابقة:
المحور الأول يتعلق بكل حملة بطاقات الدفع وكل من لديه بطاقة للائتمان، وأرجح مع انتشارها في الدول العربية أن القارئ الكريم منهم، وأعتقد أنه سيتساءل هل هذه المزايا المعلن عنها في البطاقة أو آلية الدفع والائتمان الجديدة حقيقية؟ وإذا كانت كذلك فعلاً فلماذا يتحمل تكاليف عالية ورسوم باهظة لبطاقات الائتمان التي يتعامل بها اليوم؟ وما هو مبررها وهل يمكن أن تنخفض هذه التكاليف وتلك الرسوم بفعل المنافسة؟ وكيف سيحصل على البطاقة الجديدة؟ وما الذي سيضمن الوفاء بهذه التعهدات المعلن عنها في بلاده؟ وهل ستستمر هذه المزايا أم هي للترويج لمنتج جديد؟
المحور الثاني يرتبط برد فعل البنوك والشركات المنافسة للمجموعة المصدرة للبطاقة الائتمانية الجديدة. فأحسب أن المعنيين بالصدارة والمنافسة في أسواق المال وتكنولوجيا المعلومات قد ضجت مضاجعهم بهذا الإعلان عن هذا المنتج أو الابتكار المالي الجديد. فالأسماء التي وراءه لها ثقلها الكبير في مجالات أعمالها والمنتج الجديد لا يبدأ من فراغ، فتطبيق «أبل باي» وصلت تعاملاته إلى 10 مليارات معاملة سنوياً، ومع نهاية هذا العام سيكون متاحاً في 40 دولة، علماً بأنه يتمتع بقبول من قبل نحو 70 في المائة من المحال التجارية في الولايات المتحدة، وتصل النسبة إلى 99 في المائة في أستراليا وفقاً لما أعلنه مديرها التنفيذي.
وهناك شركات تكنولوجية بحجم «أمازون» دخلت بالفعل مجال الائتمان بخطوط مفتوحة للموردين والمتعاملين معها في أسواق منصاتها الإلكترونية المفتوحة. والشركة الصينية العملاقة «تن سنت» لديها نظام دفع إلكتروني على تطبيقها المعروف في ربوع الصين المسمى «وي تشات». وهذه الشركات التكنولوجية العملاقة تتعامل على ركائز ما تملكه من قواعد بيانات كبرى لعملائها ومعاملاتهم وسلوكهم الاستهلاكي وتفضيلاتهم، وهي غير مقيدة بقواعد رقابية وإشرافية كتلك المفروضة على البنوك ومؤسسات المال. في هذا العالم الجديد ستتساءل البنوك والشركات المنافسة: هل لديها فرصة للمنافسة العادلة؟ هل يمكنها الدخول في تحالفات مماثلة؟ هل تستطيع تخفيض تكاليف ورسوم إصدار بطاقاتها الائتمانية؟ ما هي مجالات الابتكار المالي والتقنية الجديدة التي عليها أن تستثمر فيها للحفاظ على حصتها في السوق؟ هذه الأسئلة وغيرها تتواتر حتماً في أذهان ونقاشات الإدارة العليا والمسؤولين عن استراتيجيات الشركات. فالاستراتيجية في بداية الأمر ونهايته هي اختيار بين بدائل ولا أحسب أن أي بنك أو مؤسسة مالية ترغب في أن تدركها ما تسمى لحظة «كوداك» والتي تطلق على شركات كانت ملء السمع والبصر كشركة كوداك التي كانت رائدة في مجال التصوير الفوتوغرافي، وصاحبة الحصة الأكبر في سوقها ثم لم تصمد أمام الابتكارات الجديدة والمنافسة العاتية من شركات أكثر كفاءة وأقل تكلفة، بما في ذلك شركات الهواتف المحمولة التي بزغت في مجال الفوتوغرافيا الرقمية. ففي مجال الأعمال لا يشفع التاريخ وحده، ولو كان عتيداً للبقاء في المنافسة.
المحور الثالث معني بدور الرقابة المالية خصوصاً وأدوار هيئات الرقابة على الأسواق وأجهزة المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية، وضمان حماية المستهلك عموماً وشأنها مع هذه المتغيرات الكبرى في أسواق المال والبنوك والائتمان وتداخلها مع مجالات تكنولوجيا المعلومات وشركاتها وأسواق السلع والخدمات، ولكل منها رقيب قطاعي. ولكن مع هذه التداخلات وحالات التمازج والتحالف التي لا تعترف بالحدود الرقابية والبيروقراطية التقليدية يستوجب الأمر نهجاً جديداً. يبدأ هذا النهج أولاً بأن تكون للدولة المعنية سياسة للبيانات والمعلومات والتكنولوجيا المرتبطة بها، وتتبين معها لكل جهة رقابية أولوياتها في تطبيق القواعد والمعايير ومن الأهمية بمكان أن تتوفر لجهات الرقابة الخبرات المتميزة والتقنيات المتقدمة والموارد المناسبة لكي تتأهل للقيام بدورها. ثانياً، يلزم أن تقوم في كل دولة مؤسسة أو جهة للتنسيق بين جهات الرقابة المالية والاقتصادية وغيرها من جهات الإشراف لسد الثغرات الواقعة بين حدود الاختصاص التقليدية والتنسيق بينها، وأن يكون هدفها حماية الابتكار المالي والتكنولوجي والدفع بالتطوير والكفاءة والمنافسة مع ضمان قواعد السرية والخصوصية ومنع الاستغلال، وألا يكون هناك خلل رقابي على القائمين بذات الخدمات فيجب ألا يخضع بعضهم لقواعد مقيدة والبعض لقواعد ميسرة والبعض الآخر لا يلتزم بأي قواعد أو ضوابط فيما يتعلق بحقوق المتعاملين وبياناتهم وخصوصيتها. ثالثاً هناك حاجة لإطار قانوني شامل ورقابة فعالة تتعامل مع ما قد ظهر بالفعل وما يمكن أن يتكرر من أمثلة صارخة لانتهاك خصوصية البيانات ببيعها تارة لأغراض لم يتم الاتفاق أو التعاقد عليها أو اختراق قواعد البيانات والتلاعب فيها لأغراض تجارية أو سياسية، بما لا يجوز معه الاكتفاء بتعهدات مرسلة أو إعلان نوايا بالسلوك القويم تنظمه رقابة ذاتية دون إطار قانوني ملزم يحمي كافة الأطراف بعدالة، ويمكن الاستئناس في هذا الصدد بالنظام الأوروبي العام لحماية البيانات.
إن هذه المحاور تستند إلى ثقافة جديدة للتعامل مع مستجدات تكنولوجيا المعلومات والثورة الصناعية الجديدة ومهارات في سوق العمل ينبغي اكتسابها تعليماً وتدريباً ليس على مستوى الأفراد فحسب، ولكن يجب أن يمتد الأمر للمؤسسات والشركات، وكذلك جهات الرقابة عليها التي طالما عوقتها قيود البيروقراطية واللوائح العقيمة عن ملاحقة مستجدات العصر، وفي تحطيم هذه القيود والارتقاء بكفاءة وفاعلية الإشراف بتقنية رقابية عالية على الأسواق والمتعاملين فيها منافع لعموم الناس.
– النائب الأول لرئيس البنك الدولي
– الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي البنك الدولي