بعد الأزمة: هل هناك حاجة إلى اقتصاديين؟

دعتني كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في آخر الفصل الدراسي الماضي لإلقاء كلمة بمناسبة تخرج دفعة جديدة من أبناء الكلية. وجاءت ھذه الدعوة والاقتصاد العالمي يمر بأزمة كبرى لا تدانيھا في العمق والاتساع إلا الأزمة المالية في عام 1929 التي أدت، مع سوء إدارة لھا، إلى كساد كبير لم
تتبدل سيرته بين الناس إلا بحلول الحرب العالمية الثانية، وما سببته من أھوال. فكانت خسائر السياسة والحرب أشد وأنكى على الناس من أزمات الاقتصاد.
ودار بخاطري أثناء إعدادي للنقاط الرئيسية لكلمة الكلية أن أتناول أثر الأزمة الراھنة على مستقبل علم الاقتصاد والاقتصاديين، فھذه الأزمة تشكل تحدياً، ھو الأكبر منذ نشأة علم الاقتصاد لأسسه التحليلية ونظرياته ونماذجه.
ففي خلال المائة سنة الماضية تبدلت أفھام الاقتصاديين ووجھات نظرھم في إدارة الاقتصاد وتحليله عدة مرات، وكان مما يدفع إلى تبدل وجھات النظر أزمات اقتصادية كبرى.
فبعد الأزمة المالية والكساد الكبير في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، جاءت الأفكار الكينزية في عام 1936 التي شرحت الكساد الكبير باعتباره دليل فشل الأسواق وبرھان على عجز السياسة النقدية.
وانتصر “جون ماينارد كينز” لسياسات إدارة الطلب الكلي المساندة بتدخل الدولة من خلال السياسات المالية العامة، وھو ما أخذ بألباب الاقتصاديين ومحللي السياسة، وكان التبشير بدور أكبر للدولة، وھو ما قد ساد الفكر الاقتصادي والسياسات العامة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
واستمر ھذا التوجه في الدول المتقدمة والنامية حتى اندلعت ثورة مضادة في مطلع الستينيات من القرن الماضي على يد “ملتون فريدمان” رائد مدرسة “شيكاغو” الاقتصادية، والذي فسر الكساد الكبير بإخفاق في النظام النقدي الأمريكي وعجزه عن القيام بدور المقرض الأخير في وقت الأزمة
المصرفية، وما انتاب الناس خلالھا من فزع على أموالھم وانحسار في الثقة بين البنوك والمؤسسات المالية، تبعه انخفاض في السيولة والمعروض النقدي والذي أدى بدوره إلى انخفاض في الطلب الكلي، وھو الذي رآه “كينز” سبب اً للكساد ولكن وجده “فريدمان” واحد اً من نتائج عجز السياسة
النقدية التي تسببت، في النھاية، في الكساد.

ولم ينته الجدل بين أنصار المدرستين حتى الثمانينات عندما قام البنك الفيدرالي الأمريكي بالسيطرة على التضخم من خلال سياسات نقدية دون الاستعانة بتقييد في السياسات المالية العامة، أو وضع قيود إدارية على الأسعار والأجور. وعندھا ساد اعتقاد بصحة وجھة نظر “فريدمان” من أن التضخم
“ظاھرة نقدية”، واعتُبر ذلك دليلاً لانتصار مدرسة “شيكاغو” .. وظھرت بعض المناھج التحليلية مثل “الكينزية الجديدة” التي تحمل مزيجاً من مضامين وافتراضات كينزية وأخرى من مدرسة “شيكاغو” وفروض التوقعات الرشيدة مع التمسك بافتراضات رشادة سلوك المستھلك والمنتج إلى غير ذلك.