تتيسر سبل الحياة للناس في مدن حول العالم بفضل ما أسهم فيه مخططوها في الماضي، لإعدادها لمستقبل أصبح اليوم حاضراً. كما يعاني بشر كثيرون من سوء في الخدمات وتدهور في نوعية الحياة وتراجع في مستويات المعيشة لسوء تخطيط مدنهم، وتركها لجهات غلب عليها قصور الرؤية وتدني الكفاءة والافتقار لموارد بشرية ومالية تعينها على عملها.
وبالمثل، فإن تطوير المدن القائمة وتأسيس مدن جديدة اليوم سيحدد مستقبل نجاح التنمية، ويصوغ احتمالات رضا الناس وسعادتهم بما تقدمه هذه المدن من خدمات، أو نفورهم منها وبؤسهم بسببها. ومدن المستقبل يلزم أن يجتمع فيها تحقيق الأولويات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، دون أن تفتئت واحدة منها على الأخرى.
وفي عالمنا اليوم يسكن أكثر من نصف السكان في المدن، ومع تسارع نمو المناطق الحضرية سيتجاوز ساكنو الحضر ثلثي عدد سكان المعمورة في خلال ثلاثة عقود. وهو تسارع في النمو لا تلاحقه الاستثمارات في البنية الأساسية والخدمات في أغلب مدن العالم القديمة والمستجدة، وبخاصة في الدول النامية.
وقد وُضعت المدن في صدارة الاهتمام في اتفاقيات دولية ثلاث، أُقرت خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تحت مسميات التنمية المستدامة، وتغيرات المناخ والأجندة الحضرية الجديدة. ومن المفترض أن مطوري المدن القديمة ومخططي المدن الجديدة يضعون ما تعهدت به الحكومات في هذه الاتفاقيات موضع التنفيذ. ومن أسف أنه قلما يصادف الافتراض النظري بالواقع العملي وفقاً للشواهد، إما لشح في الموارد المطلوبة أو لوهن في التواصل بين دوائر الحكومة المركزية التي تبرم هذه التعهدات وجهات الإدارة المحلية المنوط بها شؤون تطوير وإدارة المدن.
وتتزايد أهمية المدن في عملية التنمية مع تزايد نمو قاطنيها، وكذلك باعتبار أنها المصدر الرئيسي للنفع والضرر في آن واحد. فالمدن هي محركات الاقتصاد العالمي وتحتوي بين جنباتها على مراكز الابتكار والتطوير والإبداع، وهي أيضاً المسببة لأكثر من 70 في المائة من الانبعاثات الضارة بالبيئة والمناخ. ومن دون تنظيم المدن ووضعها على مسار يلاحق متطلبات العصر تزيد العشوائية، وتتفاقم مشكلات المواصلات والإسكان والمياه والطاقة والنظافة وإدارة المخلفات، ويتعذر تقديم خدمات تعليمية وصحية لائقة.
لقد انتهى عهد كان يمكن النظر فيه لتكنولوجيا المعلومات بصفتها قطاعاً منعزلاً عن سواه من القطاعات، فمستحدثاتها تشكل طبيعة الحياة المعاصرة. وتنتشر تطبيقاتها وبرامجها في مجالات الإنتاج كافة، وكذلك علاج الناس وتعليمهم وتيسير انتقالاتهم وسكناهم وأعمالهم وتعبئة مدخراتهم واستثمارها، فضلاً عن سبل الترفيه عنهم إلى غير ذلك.
وأصبحت هناك إمكانية متاحة لما يزيد على 70 في المائة من سكان العالم للحصول على خدمات شبكة المعلومات واسعة النطاق من الجيل الثالث على الهواتف المحمولة، بما يوفر الحد الأدنى لاستخدام أفضل لخدمات وتطبيقات تكنولوجيا المعلومات. كما يمنح ما يعرف بإنترنت الأشياء آفاقاً جديدة للابتكار والتطوير، وكذلك توفر تحليلات قواعد البيانات الكبرى، إذا ما أحسن تنظيمها، فرصاً لتحسين الخدمات وتوفيرها بشكل أفضل للناس.
يحتاج الأمر إلى سياسة متكاملة لجعل مدن المستقبل مدناً ذكية، بمعنى حسن استخدام تكنولوجيا المعلومات لتطوير منظومة العلاقات بين دوائر الحكومة المركزية والمحلية، وبينها وبين القطاع الخاص، وبينهم جميعاً والمواطنين. ولنا في دولة إستونيا مثل، حيث أطلقت استخدام تكنولوجيا المعلومات في معاملاتها الحكومية، بما حقق لها زيادة 2 في المائة في دخلها القومي في مرحلة التطبيق الأولى. ويسمح هذا النظام المتكامل المعمول به في هذه الدولة الأوروبية بتسجيل أي شركة جديدة في أقل من 20 دقيقة. كما يقدم هذا النظام 99 في المائة من الخدمات الحكومية من خلال شبكة المعلومات – الإنترنت – بما يوفر أكثر من 800 ساعة عمل سنوياً من خلال نظام فاعل للحكومة الإلكترونية. يدعم هذا تنظيم متطور لتداول البيانات التي أصبحت في حد ذاتها مجالاً لنشاط اقتصادي متنامٍ. وتشير الإحصاءات إلى أن سوق البيانات المنظمة في الاتحاد الأوروبي قد بلغ 55 مليار يورو عام 2016، ويتوقع أن يزيد بنحو 37 في المائة حتى عام 2020.
ومن أوروبا إلى الصين التي توسعت مدنها في استخدام تكنولوجيا المعلومات في مجالات مختلفة بما في ذلك الرعاية الصحية. فباستخدام التكنولوجيا الرقمية تطورت خدمات العلاج؛ إذ يستطيع المريض الحصول على استشارات طبية متطورة من خلال نظام للاتصالات المتخصصة تسانده قواعد بيانات متكاملة. وقد تم استخدام نظم متطورة للتمويل تعتمد على المشاركة بين القطاع الخاص والقطاع الحكومي، وكذلك على تمويل من شركات رأس المال المخاطر ثم الطرح العام في البورصات في مراحل مختلفة من التمويل.
كما تشهد مدن عدة في مختلف بقاع العالم، مثل بريشتينا عاصمة كوسوفو، وتيرانا عاصمة ألبانيا، ومدايين في كولومبيا ومدينتي سمارانج ودينباسار في إندونيسيا استخداماً متطوراً للذكاء الاصطناعي، وقواعد البيانات الكبرى في تطوير خدماتها. وتشهد هذه المدن تزايداً في الاستعانة بمسوح الأقمار الصناعية للتخطيط لهذه المدن وتحديث المعلومات المساحية للأراضي لتنظيم استخداماتها وفقاً لأولويات التنمية ومراعاة الاعتبارات الاقتصادية وقواعد العدالة في تطبيقها.
فالمدن الذكية لا يتوقف الابتكار والتطوير فيها عند قطاع بعينه، أو فئة محدودة من مجتمعاتها، بل هو نظام شامل ومتكامل تتضافر فيه نظم الإدارة الحكومية مع الشركات الخاصة، وإقبال عموم الناس على تلقي الخدمات بأساليب جديدة، حتى يتم إدراك ثمار التنمية للكافة.
فالمدن الذكية تهدف إلى تحقيق ثلاث أولويات، يتمثل أولها في تحقيق الكفاءة في أنشطة المدينة كافة، وذلك باستخدام قواعد البيانات الكبيرة وتحليلها بما يجعل تقديم الخدمات العامة، كالرعاية الصحية والتعليم والمواصلات، ملبياً لاحتياجات الناس ومتجاوباً مع توقعاتهم المتزايدة في تحسينها. والأولوية الثانية تجعل من المدينة مركزاً متكاملاً للتطوير والابتكار، يزيد من فرص التعاون بين سكانها ومؤسساتها العامة والخاصة بما ييسر توفير الخدمات بأقل تكلفة ممكنة وأقل فاقد اقتصادي. والأولوية الثالثة هي أن تشمل الخدمات السكان كافة دون استبعاد لأيهم، وذلك بضمان أن يتم تقديم الخدمات بشفافية وفق قواعد متعارف عليها للحوكمة، وتقييم الأداء وفاعلية اتخاذ القرار.
ويُعد تحقيق هذه الأولويات تطبيقاً متطوراً لنهج محلية التنمية، تترجم من خلاله الأهداف، التي يتم التعهد بإنجازها على المستويين الدولي والقومي، إلى برامج عملية تنفذ حيث يعيش الناس ويعملون في المدن وأحيائها. ويستلزم هذا الأمر الاستناد إلى قواعد للبيانات والمعلومات تيسر من التخطيط واتخاذ القرار ومتابعة تنفيذه، كما يلزمه مصادر للتمويل تتوفر على مستوى المدن والسلطات المحلية للإنفاق على الخدمات الحيوية وفقاً لموازنات تترجم الأولويات ومؤسسات منضبطة تنفذها.
وغني عن التأكيد أن المدن لا توصف بالذكية لمجرد اقتنائها أجهزة ومعدات وتقنيات حديثة، لكن بما تحظى به من بشر مؤهلين للتعامل مع مستحدثات تكنولوجيا العصر وتطويرها بما ينفعهم. وفي هذا الشأن يبرز دور نظام التعليم، على أن يكون هذا النظام متطوراً خلاقاً يزكي المعرفة ويصقل المهارات بما يحقق الاستفادة من مستجدات التكنولوجيا في مدن المستقبل. فالمدن تتحقق لها التنمية بأهلها وتقدمهم، وليس بكثرة ما تقتني من أشياء أنتجها غيرها، وإن وُصفت بالذكية.
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي البنك الدولي