تتكرر الأزمات المالية لأسباب كثيرة؛ أهمها أن دروس الأزمات السابقة لا يستفيد منها الناس. واليوم، بعد عشر سنوات كان أكثرها عجافاً، منذ بدء الأزمة المالية العالمية، التي كان من أسبابها التعامل في الأصول المالية المسمومة، نشهد أزمة أخرى في طور التكوين ولكنها بلا أي أصول. وتشترك هذه الأزمة الناشئة مع السابقات عليها في التردد في اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب.
ومن المفارقات أن هذه الأزمة، التي تكتمل الآن معالمها، بدأت في غرس جذورها بعد فترة وجيزة من اندلاع الأزمة المالية. ففي شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2008 صدر عن شخص غامض، أو مجموعة مجهولة، تحت مسمى «ساتوشي ناكاماتو» اختراعاً مستحدثاً أطلقوا عليه اسم «بيتكوين» وعرّفوه بأنها عملة رقمية مشفرة.
ويعتمد هذا الاختراع على برنامج مفتوح للحاسب الآلي يستخدم تكنولوجيا تُعرف بـ«البلوك تشين» أو «سلسلة الكتل». وتجدر الإشارة، بعيداً عن ظاهرة الـ«بيتكوين»، إلى احتمال ما قد تسفر عنه تكنولوجيا سلسلة الكتل هذه من فوائد، لم تظهر بجلاء بعد، لاعتمادها على شبكة من التعاملات المفترض تأمينها من خلال التشفير المحكم بين أطراف المعاملات، ولعدم اعتمادها على مركز واحد لتخزين البيانات والمعلومات يسهل اقتحامه.
وهناك مغالطة في اعتبار الـ«بيتكوين» وأخواتها، التي وصل عددها في مطلع هذا العام إلى نحو 1400، نوعاً من أنواع النقود المتعارف عليها، فهي ليست مساندة بأي كيان اقتصادي أو أصل من الأصول، وتعاملاتها لا تعتمد على أي جهة رسمية أو بنية اقتصادية، وتداولاتها لا تراقَب بأي سلطة نقدية. وفي حين يعتبر أنصار هذه «المُشفّرات» أن ما سبق من المزايا التي تجعلها عملات أو نقوداً بديلة، إلا أن تاريخ تطور النقود ينسف هذه المزايا المزعومة نسفاً، ويجعلنا بصدد خديعة نقدية ومالية كبرى تتضاءل إلى جانبها خدع توظيف الأموال، أو ما يُعرف بنماذج التمويل الهرمي، على طريقة النصّاب الأميركي بونزي في مطلع القرن العشرين. وقد ذكر الاقتصادي الحائز جائزة نوبل روبرت شيلر أن معاملاتها تحمل كثيراً من خصائصها في التحايل.
نحن أمام ظاهرة أمست فقاعة مالية تتضخم، قد تكون الأكبر في التاريخ قبل انفجارها، على النحو الذي حذر منه الاقتصادي نوريل روبيني. كما تشكل تهديداً لنظم المدفوعات والاستقرار النقدي، وفقاً لتصريحات صادرة مؤخراً عن بنك التسويات الدولية، الذي يعتبر بنك البنوك المركزية. وهي مجال للتهرب الضريبي والفساد المالي لعدم تدوين معاملاتها وسريتها واستخدامها في تمويل الجريمة المنظمة، فضلاً عن آثارها السلبية على الطاقة والبيئة؛ إذ ذكرت بعض التقديرات أن استهلاك الكهرباء في عمليات التعدين قد يتجاوز استخدام دولة بحجم المغرب.
وأشار أجوستين كارستنس، المدير العام لبنك التسويات الدولية، إلى أن الـ«بيتكوين» وأخواتها، رغم اعتمادها على تكنولوجيا البلوك تشين، فإنها فاشلة حتماً كعملة تداول، وليست بحال من أشكال النقود لقصورها في القيام بالوظائف الثلاث للنقود المتعارف عليها كوحدة للحساب في المعاملات، ومخزن للقيمة، ووسيلة مقبولة لدفع المستحقات.
ولقد اتسمت أسعار الـ«بيتكوين» بالتقلب الشديد، إذ ارتفع سعرها في عام 2011 من 30 سنتاً إلى 32 دولاراً، وفي بدايات عام 2017 زاد سعرها على سعر أونصة الذهب حينها بوصولها إلى 1268 دولاراً، ثم تجاوزت 19780 دولاراً في شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، ثم انخفضت حتى بلغ سعر الوحدة منها مؤخراً 8290 دولاراً.
حدث هذا التقلب السعري الشديد على الرغم من محاولة مفتعلة لإكساب الـ«بيتكوين» خاصية الندرة، بتحديد عدد الوحدات المصدرة بمقدار لا يتجاوز 21 مليون وحدة للتحكم في إجمالي المعروض منها، وافتعال جهد مطلوب لتعدينها كأنها معدن الذهب، من خلال حل مجموعة من المعادلات المبهمة، تتطلب حواسب آلية وبرامج بمواصفات خاصة تستهلك لتشغيلها طاقة كهربائية هائلة. لكن ظاهرة التفريع لـ«بيتكوين»، كأنها أسنان شوكة الطعام، تتفرع من كل واحدة منها شوكات أخرى، تجعل استقرار قيمتها عبثاً. فخلال العام الماضي وحده ظهرت 19 شوكة بيتكوين جديدة تحت مسميات مثل الـ«بيتكوين النقدي» و«الذهبي» و«الماسّي» وغيرها، بما يخفض سعر المعروض. أما في جانب الطلب، فهناك نهم في الشراء المدفوع بالرغبة في الثراء السريع استجابة للدعاية المضللة، وما يُعرف بظاهرة «الخوف من أن يُترك الشخص وحيداً» والناس من حوله يثرون من خلال مضاربات محمومة، بما جعلها تنافس ألعاب القمار، بل هي أسوأ. فهذه الألعاب المذمومة تجد لها في الدول المختلفة قوانين مانعة، أو على الأقل ضوابط منظمة، أما معاملات المُشفّرات فلا ضابط عليها أو رقيب. كما أنها تستخدم في تمويل الجريمة المنظمة عبر الحدود وداخلها، مثلما ظهر في حالة المنصة الإلكترونية «ألفا باي» التي أغلقتها السلطات الأميركية بعد ضلوعها في ما يزيد على مليار دولار من المعاملات المجرّمة قانوناً.
لقد أحسنت السلطات الرقابية النقدية في عدة دول، منها الصين، أواخر العام الماضي، عندما حظرت التعامل في الـ«بيتكوين» ونظيراتها، ومنعت بنوكها من قبولها «لمنع خسائر هائلة للاقتصاد الوطني لا يمكن إصلاحها» وفقاً لما ذكره محافظ البنك المركزي الصيني المخضرم زاو زياو شوان. كما حظرت كوريا الجنوبية المعاملات المجهلة وعمليات التعدين بعدما كانت من أكبر مقراتها. وكذلك فعلت منذ أيام البنوك المركزية في الهند وكينيا وباكستان، فقد ألزم بنك الاحتياطي الهندي المصارفَ بعدم التعامل في هذه المُشفّرات أو تقديم خدمات بشأنها، والتخارج من أي معاملات قائمة فيها خلال 3 أشهر، مؤكداً خطورتها على جهود مكافحة غسل الأموال وضررها بالحقوق المالية للمواطنين واستقرار الأسواق.
لا شك أن للتكنولوجيا فضلاً كبيراً في الارتقاء بالخدمات المالية والنقدية، وسيترتب عليها نقلات نوعية كبيرة لنظم الدفع والمعاملات بين الناس، لكن من العبث أن تكون الفوضى بديلاً عن الجهد المنضبط للتطوير وعلاج أوجه القصور في كفاءة النظم النقدية.
https://aawsat.com/home/article/1240946/د-محمود-محيي-الدين/أزمة-مُشفّرة